www.saidiffer.blogspot.com

dimanche 22 septembre 2013

عرف الأستاذ فوست (1932م) "الجغرافية التاريخية بأنها ذلك الجزء الأساسي من الجغرافيا الذى يتناول دراسة تأثير الحوادث التاريخية على الحقائق الجغرافية"، بينما عرفها روكسى (1935م) بأنها "الدراسة التحليلية أو النقدية لتطور الملاءمة بين الإنسان والطبيعة كما تظهر في تاريخ المحلات العمرانية، أو استغلال الأرض، أو العلاقات التجارية والثقافية أو في تطور الوحدات السياسية والدول والعلاقة بين بعضها والبعض الآخر"، ويرى الأستاذ هارتشورن (1939م) أنها "تقوم بشرح توزيع الجماعات البشرية ووصف تكوينها العنصري وتطور هذا التكوين خلال التاريخ، وذلك بالإضافة إلى دراسة النواحي الاقتصادية والسياسية لمنطقة ما خلال فترة تاريخية ما ".
ويري الجغرافي الأمريكي رالف براون والذي كتب عن الجغرافيا التاريخية للولايات المتحدة (1948م) "أن الجغرافيا التاريخية هي جغرافية المعنى"، وبذلك اتفق مع جريفث تيلور الذى وصفها بأنها "دراسة أي فترة تاريخية أخرى تحتوى على أدلة تاريخية"، وقد دفعه ذلك إلي أن يلحق بها جغرافية عصر ما قبل التاريخ. بينما يؤكد الجغرافي كلارك في كتاباته علي "أن محور الجغرافيا التاريخية لابد أن يدور حول دراسة التغير الجغرافي في أي فترة زمنية، سواء كانت هذه الدراسة خاصة بظاهرة حضارية أو طبيعية أو بيولوجية، ومهما كانت محدودة الموضوع أو صغيرة المساحة".
بينما يري الجغرافي هالفورد ماكندر "أن الجغرافيا التاريخية تقوم أساساً علي دراسة الحاضر التاريخي"، بينما الجغرافيا التاريخية من وجهة نظر الجغرافي الكبير جلبرت الأستاذ بجامعة أكسفورد تندرج تحت خمسة تعريفات على الأقل هي:
1- دراسة تاريخ علم الجغرافيا.
2- دراسة تاريخ الكشوف الجغرافية.
3- دراسة تغيرات الحدود السياسية بين الدول.
4- دراسة تأثير البيئة على مجرى الحوادث التاريخية.
5- دراسة الجغرافيا الإقليمية للماضي.
من هذا التعريفات المختلفة نخلص إلي أن الجغرافيا التاريخية هي جغرافية الماضي، وليست هذه الدراسة هدفاً في حد ذاتها، ولكن الهدف منها التعرض لتطور المكان خلال الزمن، وهذا مما يجعلها تعطى بعداً آخر للمكان وهو البعد الزماني الذى يضفى عليها حركة وحياة، وتعطى الباحث فكرة واضحة عن عبقرية المكان. فلا تصبح الحقول والمحاصيل، أو المدن والدساكر، أو المصانع والمناجم مجرد منشآت يدرس توزيعها وحاصلاتها وعدد سكانها وما إليها، بل تصبح هذه الحقائق الجغرافية أعضاء في كيان واحد تنبض بالحركة باستمرار، وهذا مما لا يجعل الجغرافيا علماً ساكناً، بل تصبح علماً متحركاً ( ديناميكياً)، ولابد وأن لهذه الحركة (الديناميكية) إيقاع محدد، يجب على الباحث في الجغرافيا التاريخية أن يوضحه. و قبل أن ننطلق في إيضاح هذه النقطة يجب علينا أن ننفى عن الجغرافيا التاريخية مقولة أنها جغرافيا للتاريخ، مجرد خادم له أو أنها تاريخ للجغرافيا بل هي علم له مجاله وهدفه لا ينحدر إلى مجرد تبريرات لمجريات التاريخ، كما أن تاريخ الجغرافيا علم آخر مستقل.
إن تصور ما كانت عليه الجغرافيا القديمة هو الهدف الأساسي للجغرافيا التاريخية، كما وأن الجغرافيا نفسها تحدث في فترات زمنية مختلفة أي تمتد عبر مرحلة زمنية محددة. وكذلك نجد الجغرافيا التاريخية يمكن تقسيمها إلي مراحل زمنية في العصور القديمة، وبهذا المعنى نستطيع أن نتحدث عن جغرافية مصر الفرعونية، وكذلك جغرافيتها في عصر البطالمة، وجغرافيتها في العصر العربي وهكذا كما تقدم في الفصل الأول، ولا ريب أن جغرافية مصر بعد خمسين أو مائة عام ستختلف عما هي عليه الآن، وستظهر في خريطتها الطبيعية آثار السد العالي في عمليات النحت التي بدأت في مجراه الأدنى داخل أرض مصر، كما سيظهر في خريطتها الزراعية والعمرانية آثاره في التوسع الزراعي الصناعي.
وهذا ما عبر عنه ماكولى في كتابه " تاريخ انجلترا " (1848) بقوله: " إذا أردنا أن نقوم بدراسة مجدية لتاريخ أجدادنا، فيجب علينا ألا ننسى أن الأقاليم التى نقرأ تاريخها القديم، كانت بالتأكيد مختلفة عن الأقاليم التى نعيش فيها اليوم "، وقد كتب فصلاً عن تضاريس انجلترا في عام 1685 قال فيه "لو أمكننا بقوة سحرية أن نشهد الحياة في انجلترا 19685 فإنا لن نستطيع أن نميز جزء من مائة جزء من مظهرها الطبيعي، ولن نتعرف إلى بناء واحد من ألف بناء، ولن يستطيع مالك الأرض في الريف أن يعرف حقوله، ولا ساكن المدينة الشارع الذى يقطنه، لقد تغير كل شئ في انجلترا "، ولو أننا راجعنا هذا القول علي ما آلت إليه المظاهر الطبيعية في انجلترا لبدت المعالم الكبرى لا تزال على حالها، ولم تتغير بشكل ظاهر ولكن سنجد أن ما تغير كل ما هو من عمل الإنسان.
وقد كتب تريفليان في كتابه عن تاريخ انجلترا الاقتصادي فصلان يصف فيهما " وجه البلاد " أحدهما في عام 1820 والآخر في عام1826 وقد برزت هذه الكتب الثلاثة(كتاب ماكولى وكتابي تريفليان) كأمثلة نموذجية للأسلوب الذى يتخذه المؤرخون عندما يكتبون في الجغرافيا التاريخية، وقد قال جرين في كتابه بناء انجلترا (1885) عبارته المشهورة " يجب أن نعترف بأن الأرض بما تقدمه لنا من معلومات، أنها من بين المستندات التاريخية، أغزرها مادة وأبعدها عن الخطأ ".
لقد عرضنا لعلم الجغرافيا باعتباره خلفية للتاريخ، ونستطيع أن نعرض للتاريخ كخلفية للجغرافيا، والواقع أنه من العسير في كثير من الحالات وضع حد يفصل بين هذين العلمين التاريخ والجغرافيا، وذلك لأن الجغرافيا الحاضرة ليست إلا طبقة رقيقة لا تلبث طويلاً قبل أن تصبح في ذمة التاريخ، أو هي صورة من فيلم سينمائي متحرك لا يلبث أن يختفي لتحل محلها صورة أخرى، هذه حقيقة لا تحتاج إلى برهان، فيكفى أن نقارن بين أطلس حديث والذي يعتبر سجل عام لعديد من الحقائق الجغرافية، وبين أطلس قديم صدر منذ عشرين أو خمسين أو مائة عام مضت لنلاحظ الفرق الكبير بين ما هو مدون فيهما، ولهذا لا بد أن يبحث قارئ الخريطة عن تاريخها قبل أن يقرأها.
والسؤال الذى يعرض لنا الآن هو متى يفقد عمل من الأعمال قيمته الجغرافية ويصبح جزءا من التاريخ ؟ وهل نستطيع أن نضع فاصلاً بين الجغرافية والتاريخ ؟ الإجابة على ذلك السؤال ستون بالنفي لأن العالم في حركة مستمرة، اختلاف الليل والنهار وتعاقب الفصول وتوالى السنين وتتابع الأجيال تلك أمور كلها تحمل عوامل التغير، والهدم والبناء، باستمرار في كل أمر من أمور الطبيعة، مثال مظاهر سطح الأرض، ذبذبة المناخ، الغطاء النباتي، وفوق ذلك كله الإنسان كأكبر عامل من عوامل التغيير على سطح الأرض، لذلك يمكن اعتبار أن كل ما تهتم الجغرافيا الحالية بدراسته سوف يصبح فيما بعد جزء من الجغرافيا التاريخية.
بل ونستطيع أن نقول أن المظهر الثقافي والحضاري للإنسان في أجزاء الأرض المختلفة ليس نتاج التضاريس والتربة والمناخ فحسب، بل هو أيضاً نتاج أثر استغلال الأجيال المتعاقبة من البشر لهذه العناصر، وقد أطلق فيدال دي لابلاش على الجغرافيا اسم " علم الأماكن "، ولكنه كان يقصد الأماكن كما تتأثر بالإنسان وليست الأماكن بحالتها الطبيعية عند بدء الخليقة، فليست الشخصية الجغرافية كما يقول أثرا من آثار الأحوال الجيولوجية والمناخية فحسب، بل وليست شيئا نتسلمه من الطبيعة جاهزاً، ويمكننا أن نضيف إلى ذلك أن هذه الشخصية لا تظهر في الوجود إلا عندما يبدأ الإنسان في انتزاع قوته من الأرض التي يحيي عليها ويتغذى من نتاجها.
إن الزمن يترك بصماته التى لا تمحى على سطح الأرض، فربما يتركها في شكل حفريات الكائنات البائدة في الصخر، وفى التغيرات التى تحدثها الأجيال المتعاقبة على سطح الأرض ". والآن وقد عرفنا أهمية عنصر الزمن في الجغرافية، هل يستطيع الجغرافي أن يكتفي بوصف الحالة التي عليها سطح الأرض الآن أو ما نسميه الجغرافيا الإقليمية الحالية ؟ إن المظهرين الطبيعي والثقافي معاً ليسا أمرين ثابتين حتى الأبد، بل هما في تغير مستمر، ولكي نفهم الحاضر لابد أن نعود إلى الماضي لنتعرف علي الوضع السابق وما آل إليه الوضع الآن، ولكي تكون دراستنا أكثر عمقاً لابد أن نرجع إلى أصولها وخطوات تطورها. وهذه هي قيمة الجغرافيا التاريخية.
عندما تدرس ظاهرة جغرافية، ونسأل أنفسنا لماذا تتخذ هذه الظاهرة الشكل الذى نجده عليها الآن، وكيف تم لها ذلك ؟ ونبدأ في البحث عن الإجابة لهذا السؤال، فإننا ندخل في الحال مجال الجغرافية التاريخية، وندرك أيضاً في نفس الوقت قيمتها. نخلص من ذلك أن الجغرافيا التاريخية، هي الجغرافيا في حالة الحركة أو الحالة الديناميكية.

Aucun commentaire: